السينوغرافيا والتحول الدلالي
للعلامات في المسرح، بشكل عام، والعلامات السينوغرافية بخاصة، خصائص تتميز بها، ولعل قدرتها علي التحول، أو ديناميكيتها، هي أهمها، فخاصية العلامات المسرحية الأساسية هي: تبادل المواد، والانتقال من مظهر الي آخر، وبعث الحياة في الشيء الجامد، والتحول من مجال الرؤيا الي مجال السمع، أو العكس. ويستحيل علينا في العرض المسرحي أن نقرر بصفة قاطعة ما إذا كان ما يسمي حركة لن يدل عليه عنصر آخر من عناصر العرض، أو أن نتنبأ بأن ما يعد ظاهرة سمعية لن يعهد به الي ظاهرة بصرية، كتحول بعض المقاطع الحوارية الي صور، أو تحول بعض المفردات السينوغرافية (كاللواحق وقطع الأثاث) الي فواعل تؤدي فعلاً ما ضمن سياق العرض، فالمناضد مثلاً يمكن أن تصبح مخلوقات نكرهها أكثر مما نكره أعداءنا، كما يقول (هونزل). وكذلك تحول حركات الممثل الي رقصة تعبيرية، أو توظيف مشبه للإيحاء بالفضاء. وهكذا يمكن تفسير خطوات الممثل (عنصر حركي) كوظيفة للموقع الفضائي (عنصر تشكيلي). إن المفردات السينوغرافية التي تؤدي دوراً رمزياً علي خشبة المسرح تأخذ، وهي في حالة استعمال مسرحي، خصائص صفات وطبائع لا تحملها في الحياة العادية، فهي تخلق من جديد مغايرة لطبيعتها الأولي، كالممثل تماماً الذي يتحول علي الخشبة الي انسان آخر (شاب الي شيخ، إمراة الي رجل ...). كذلك الشيء الذي يستعمله الممثل في أداء دوره يمكن أن يعطي مدلولات جديدة لم تكن من قبل من خصائصه ومميزاته، فما يظهر، مثلاً، أنه قبضة سيف في مشهد ما يمكن أن ينقلب الي صليب في المشهد التالي، ويمكن أن يتحول شباك منزل الي قضبان سجن، والأريكة الي سرير، وبالعكس، والعصا الي حصان، والدكة الي عربة في مسرحية ما. وقد يتحول الرمح الي جناح طائر، والستارة الزرقاء الي بحر، والخيمة الي سارية، والعباءة الي كفن، وبالعكس في مسرحية أخري. وبالإمكان إيراد أمثلة أخري لإظهار الميزة الأساسية للعلامات السينوغرافية كيف تغير وظيفتها، وتنتقل من ناحية الي أخري محركة أشياء معدومة الحركة، ومتحولة من مظهر بصري، أو دلالي الي آخر. إذن فقدرة العلامة المسرحية بصورة عامة، والعلامات السينوغرافية بخاصة، علي التحول هي طابعها الخاص، وبفضله نفهم لماذا يستطيع البناء المسرحي كله أن يتحول في أية لحظة. وفي سياق مبدأ التحول في العلامات المسرحية من بنية دلالية الي بنية دلالية مغايرة يشير (كير إيلام) الي أن العديد من التجارب المسماة بالطليعية في مسرح القرن العشرين قام علي أساس ترقية الديكور الي مستوي فاعل للتسويم، وتنازل الممثل بالمقابل عن قوة الفعل، ويضرب مثالاً علي هذه الترقية بـ (كريج) الذي كان يري النموذج في العرض الذي تكون فيه الغلبة لجهاز دل تضميني (إيحائي) عالٍ، ويكون فيه للمثل دور محدد تماماً في (الدمية السامية)، وكذلك بمسرحيتي (بيكت) الصامتتين (فصل من دون كلام 1و2) اللتين تقومان علي تبادل عكس الأدوار الذاتية ــ الموضوعية بين الممثل واللواحق ــ حاملات ــ العلامة السينوغرافية التي تحيط بالممثل تحدد صورته الانسانية وتضحي بها (شجرة، حبل، صندوق ... الخ) في حين أسند الدور الأول الوحيد في دراميته (نفس) التي لا تتجاوز الثلاثين ثانية الي الديكور. من خصائص العلامات السينوغرافية، أيضاً، الميل الي التعقيد، فهناك حالات يضطر المتلقي فيها الي أن يجمع بين علامتين، أو علامات عدة لكي يكتشف المدلول المركب، وثمة مثال مهم يوضح هذه الخاصية أورده كريم رشيد في بحثه الأكاديمي (جماليات المكان في المسرح العراقي المعاصر) وهو تصميم عرش كافور الأخشيدي وسجن المتنبي (في مسرحية المتنبي التي ألفها عادل كاظم، وأخرجها إبراهيم جلال) في إنشاء بنائي موحد بحيث يكون سجن المتنبي عبارة عن صندوق صغير ذي قضبان في واجهته يعلوه مباشرة كرسي كافور، فيكون السجن مجرد ذلك الحيز الصغير الواقع تحت كرسي العرش، وبين قوائمه الأرضية. ومن المؤكد أن الكرسي بحد ذاته ذو معني أساسي واضح، وكذلك السجن، لكن وجودهما معاً في إنشاء بنائي واحد يجعلنا ننظر اليهما كوحدة دلالية مركبة نقرأ فيها معني آخر غير المعني الأساسي لكل منهما بمعزل عن الآخر. وبجمع المدلولين معا نقف علي مدلول مركب مفاده سيطرة سلطة كافور علي الشعر والابداع وتحجيمهما لدورهما في حدود عرشها وفائدتها.
منقول من منتديات المسرح الكنسي