المشكلة في الإعلام
عبد الوهاب بدرخان
تعتقد الأنظمة المأزومة، وتدّعي، أنها إزاء مشكلة إعلامية بحتة. هي تعرف الحقيقة لكن لا مصلحة لها في الاعتراف بها. في الأساس هو ما يحصل على الأرض، أي في الواقع، بكل ما يعنيه من شجاعة ومجازفة، من عرف ودمع ودم، ومن إرادة شعب. وما تنقله الشاشات هو الصورة، المؤثرة والموحية بلا شك، لكن التغيير يأتي نتيجة الفعل لا الصورة.
تنزعج الأنظمة، طبعاً، لأنها اعتادت أن تُقدم على ارتكاباتها من دون رقباء ولا شهود. تحتفظ بوجهها القبيح في أقبية مظلمة، ولا يظهر للعيون سوى الوجه الجميل الناصع، الذي لم يكن يوماً إلا على ما يرام. فجأة وجدت نفسها مسبوقة في التيار الجارف، فضائيات، شبكات إلكترونية، عدسات هواتف جوالة، ولا قدرة لها على احتكار الوصول إليها أو تقييده، ولا على منع خصومها أو ضحاياها من استخدامها. تلك هي "الثورة" التي فرضت نوعاً من "التكافؤ" بين الأطراف. أصبح قتل شعب آمن، مثل قتل امرئ في غابة، جريمة لا تغتفر، وليس مجرد مسألة فيها نظر.
كان النظام الليبي الأكثر جهوزية لليوم الأسود. ذهب في التشويش على الفضائيات إلى أقصى ما يستطيع، وأربكها إلى حين، لكنه لم يتمكن من تعتيم شاشاتها. استسهل تجنيد مهندسي تخريب على تدريب إعلاميين وكوادر لمقارعة معلومة بمعلومة ورأي برأي. كان يعلم مسبقاً أن كل ما لديه هو للاخفاء، ولا يصلح لإخراجه إلى الضوء. لكنه تشارك مع الأنظمة الأخرى في نقد إقراري بأن إعلامها قاصر، سبقه نقد ذاتي آخر بأن أساليب الأمن متخلفة وأفراده غير مدربين على التعامل مع تظاهرات سلمية ولا مع أي نوع من التظاهرات لأن التظاهر كان، ببساطة، محرماً.
ثمة أسطورة قديمة انكسرت وسقطت. اسمها الرواية الرسمية. وسقطت معها مقولة "صدّق ما نقوله لا تصدّق ما تراه".
غدا مثيراً للعجب أن امبراطوريات التضليل تهاوت بلحظة مثل قصور من ورق. كانت جيوش من الموظفين تشتغل فيها، تعرف ما يحدث وتتفنن في إنتاج أفضل الأكاذيب وأكثرها إبداعاً. في اليمن فائض وطني من الذرائع، لعل أجودها وأكثرها لبوساً لأي حدث أن تنظيم "القاعدة" هو الذي ضرب.
يذهب "البلاطجة" إلى ساحة التغيير ليجعلوا من "جمعة الكرامة" جمعة المذبحة، فيقال إن عناصر "مشبوهة" اندست وقتلت ليصار بعدئذ إلى تلفيق تهمة للنظام. أو يقصف مسجد دار الرئاسة فيقال القبائل، أو "القاعدة"، أو هجوم خارجي.
لابد من الاعتراف بالابتكارية التي يبديها الإعلام السوري، رسمياً أو "خاصاً" بمثابة رسمي. ففي مرحلة أولى ظن أن ثمة وجوهاً يمكن أن توصل حمولة الرواية الرسمية بسلاسة وأن تؤمن إلى حد ما قبولها. سرعان ما اكتشف أن تلك الوجوه كانت محروقة وزادت احتراقاً. لذا انتقل سريعاً أيضاً إلى وجوه جديدة اعتقدت أنها مدعوة إلى تمرين على التهاتر والتماحك.
ورغم الألقاب التي تسبق الأسماء وتفترض التوقير إلا أن أصحابها لم يروا لم يسمعوا لم يفقهوا. همهم أن يحشروا المذيع أو يفحموا المذيعة مع افتراض الخصومة المسبقة أو المبيّتة.
والواقع أن مجرد عرض صور أو مشاهد تنكيل أو وقائع ثمع معلن صار يعتبر تدخلاً غير مبرر في شأن داخلي يجب أن تُساءل الدولة الراعية للفضائية على السماح به. لكن هؤلاء المساكين زجّ بهم في مهمات طارئة فجرى تلقينهم بعض الحجج ثم أُفلتوا لقرائحهم واجتهاداتهم. لا عيب في أنهم من أنصار النظام، طالما أن هذا خيارهم الحرّ، لكن إلى أي حد يمكن الدفاع عن قتل منهجي للناس. هذه مواجهة مع الذات، مع الضمير، ستصبح قريباً مواجهة مع المجتمع. ولعل ضخامة العملية، وكثرة "الطلبيات"، أوجبت الاستعانة بخبرات بعض اللبنانيين كأبواق مرتزقة تثرثر كثيراً ولا تقنع أحداً.
قمة الابتكار تمثلت بدفع الفضائيات إلى الخطأ المهني العلني، البيّن والمفضوح، ليسهل إتهامها بسوء النية والتشهير بها، حتى لو كان ذلك استخدام سفيرة تُستقال بعلمها أو من دون علما، ثم تكون جاهزة للنفي الصريح المبرمج. كثيراً ما استخدم هذا الأسلوب سابقاً مع الصحف المكتوبة بجعلها تتلقف خبراً مهماً مكتمل العناصر، لتكتشف بعد النشر أنها كانت ضحية خديعة.
المشكلة أن هذه الأساليب تصلح للعب أو للمشاغبات، لكنها تجرّب في ظروف غير مناسبة. تستحق أرواح الناس ومطالبها المشروعة مقداراً أقل من العبثية.
منقول من منتديات بوابة العرب