قصة : أحمد الليثى الشرونى / أسوان
" برتقال ملغوم "
عندما تدخل " منار " الفصل وتقف أمام تلاميذها بوجهها الشامخ الذي يشبه وجه ملكة قادمة من عصور الفخر والعزة، يشعر الأولاد بالزهو، فهي معلمة صارمة وحنونة ، يطل من عينيها حزن رمادي ، تحفظ التاريخ جيداً وتعلمه للأولاد ، تسقيه لهم قطرة قطرة ، ترتدى( البالطو) الأبيض وتمسك الطبشورة في يدها، تكتب تواريخاً وترسم خرائط ، تربط الماضي بالحاضر وتتنبأ بالمستقبل ، يظل التلاميذ منتبهين إليها طوال الحصة معجبين بطريقة أدائها في شرح الدروس , ويشاركونها الحلم الجميل فى الثأر لأبيها الشهيد الذي اغتالته يد الغدر منذ أكثر من عشرين عاماً .
كثيراً ما كانت تذهب" منار" إلى البحر تنظر إليه وتغسل أحزانها في مياهه الطاهرة , البحر يمنحها الأمل ويحكى لها تاريخ مجد سطره الأوائل على هذه الأرض الطيبة , يقص عليها حكايات لم تقرأها في كتب التاريخ ، تفرح بها ، وتهديه بعضاً من أحزانها وقلقها، تخشاه عندما تنعكس على صفحة مياهه ألوان الشفق الدامي بعد الغروب .
حفظت" منار" شوارع وأزقة غزة ، يدغدغ مشاعرها هذا اللون الأبيض الذي يطلى مبانيها الشاهقة , تنظر في عيون الأمهات فتلمح شهيداً أو أكثر يطِّل من هذه العيون الدامعة الحزينة الصامدة ، كم من خنساءٍ تعيش هنا في غزةِ مدينة البحر والهواء والشهداء والصمود ، ما أجملك يا غزة وأنت تنامين فى حضن البحر ! فيعطيك بعضاً من أسراره وسموُّه ، يمشط لك شعرك الفاحم المسترسل كقصيدة شعر نظمها شاعر منذ آلاف السنين ، هواؤه الطرى يدغدغ مشاعرك النبيلة ،فتفرحين به وبأمواجه الثائرة دوماً .
****
أشجار البرتقال في غزة حزينة ، أوراقها تنتفض ولكن أغصانها منتصبة في كبرياء ، تطرح كل لحظة ثماراً ناضجة تهديها للصغار لتكون ألغاما يقذفون بها الأعداء، لا زلت أذكر صورة أبى مسربلاً في دمائه أمام بيتنا عندما أصابته قذيفة وهوعائد من المسجد بعد صلاة العشاء ذات ليلة شتوية عاصفة و كانت أمي تحضنه وتبكى ، حينذاك لم تحتمل أعوامي الستة هذا المنظر المروع والذي لم يغب عن ناظري يوماً واحداً طوال عشرين عاماً ، لحظتها قالوا لي أن أبى أخذته الملائكة إلى السماء وسوف يعود قريباً ، وظللت أنتظره حتى كبرت وعرفت أنه لن يعود ، بعد عام واحد فقط ماتت أمي متأثرة بمرض خطير في القلب ، بعدها أخذني عمى" رياض " لكي أعيش معه ، تربيت مع أبناء عمى وتعلمت حتى تخرجت من الجامعة ، ولا أنكر أن عمى "رياض" عوضني عن فقدان أبى ولم يبخل عنى بشيء , وزوجته الطيبة احتضنتني وحافظت علىَّ ، ذكريات الطفولة تبعث في داخلى شعوراً دقيقاً من الأسى الذي تمدد فى صدري وأنا ألمح فى كل يوم شهيداً يسقط ويذكرني بأبي الشهيد الذي مازلت أعلق صورته كتميمة فوق صدري .
****
فى أحيان كثيرة لا تنسى " منار " أن تحكى لتلاميذها عن" محمود درويش" ، عن شعره الذي يسكن القلوب وتردده الألسنة ، عن ثورته ضد الظلم والقهر، وأنه هو الذي كتب بطاقة هويته منذ أن كان صغيراً " سجل ! / أنا عربي / أنا اسم بلا لقب / صبور فى بلاد كل ما فيها / يعيش بفورة الغضب / جذوري ... / قبل ميلاد الزمان رست / وقبل تفتح الحقب / وقبل السرو والزيتون / وقبل ترعرع العشب / أبى .. من أسرة المحراث / لا من سادة نُجُب " يفرح الأولاد به ويبحثون عن شعره ويحفظونه , ثم يرددونه فيما بينهم .
ولا يفوتها أن تكتب عبارتها الشهيرة التى تعودت عليها فى نهاية كل حصة " اغرسوا شجرة برتقال أخرى مكان الشجرة التي اقتلعتها الأيادي الغادرة ، وفى اليوم التالي ستطرح برتقالاً يصير لغماً فى أيديكم تقذفونه فى وجه المغتصب لأرضكم وأحلامكم وآمالكم ... لاتنسوا ... لا تنسوا .... " .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ